المادة    
يقول المصنف: [وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب] والشبلي من أئمة الصوفية المشاهير، ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/367) وفي المنتظم لـابن الجوزي (6/347) وفي الحلية (10/366)، وقد نقل عنه في الحلية نقولاً كثيرة، تدل على تعمقه وتمكنه في التصوف، ولاسيما في جانب المحبة والعشق الإلهي -كما يزعمون- فكانت كل حياته في هذا الجانب، حتى وصل به الحال إلى الجنون؟ وهم يسمونه جنون المحبة.
وذكر أبو نعيم بسنده: أنه اجتمع إليه مرة جمع غفير من الناس؛ فقال لهم: ماذا تريدون مني؟ أنا مجنون، دخلت (المارستان) كذا وكذا مرة، وسقيت كذا وكذا دواء، ولم أشف من جنوني، ماذا تريدون مني؟! ولماذا تتجمعون حولي؟!
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الفرقان: أن هذا الرجل قد يكون معذوراً، والذهبي رحمه الله ذكر شيئاً من ذلك فقال: غاية ما في الأمر أن يكون معذوراً في قوله؛ وقال في ترجمته: "كان فقيها عارفاً بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة، وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسُكْر" أي: سكر المحبة وليس من شرب الخمر، قال: "فيقول أشياء يعتذر عنه فيها"، وهذا نموذج من كلامه يقول: (ما قلت: الله، إلا استغفرت الله من قولي: الله).
والاستغفار عند الصوفية مراتب؛ فنحن العامة -عندهم- استغفارنا أننا إذا أذنبنا نقول: نستغفر الله ونتوب إلى الله، وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث. {أنه كان يستغفر الله ويتوب إليه في المجلس الواحد سبعين مرة -وفي رواية أخرى- مائة مرة} فهكذا كان رسول الله، وهكذا كان الأنبياء من قبله، فهذا داود عليه السلام وإبراهيم عليه السلام وغيرهم كانوا ممن استغفر ربه سبحانه وتعالى، والصوفية يقولون: هذا استغفار العامة، أما الخاصة المقربون في نظرهم فيستغفرون من الاستغفار! ويستغفرون من الذكر!
يقول: (إذا ذكرت الله فإني أستغفر الله من قولي: الله) وهذا على خلاف ما فهمه السلف: من أن الله شرع عقب كل عبادة أن نستغفره؛ لأننا لم نعبده حق عبادته، كالاستغفار عقب الصلاة، وكذلك بعد الصيام وبعد الحج، فهم أي: الصوفية لا يقولونه بناءً على هذا، لكن يقولون: لأن نفس الاستغفار ونفس الذكر عندهم شرك، وعللوا ذلك بقولهم: أنت عندما تذكر الله أو تستغفره تثبت لنفسك وجوداً، يعني: أنت في هذه الحال ما تزال -حسب زعمهم- مشركاً، لأنك أثبت ذاتين: ذاتاً تستغفر، وذاتاً تغفر، فأنت لا تزال في درجة دنيا.
وغاية الحق عندهم أن ترى الذاتين ذاتاً واحدة، تعالى الله عما يصفون، وهذا معتقد البوذية والبراهمة، نعوذ بالله من الضلال.
يقول الذهبي رحمه الله أيضاً (ص 369): "وكان رحمه الله لهجاً بالشعر والغزل والمحبة وله ذوق في ذلك، وله مجاهدات عجيبة انحرف منها مزاجه".
ويذكر أبو نعيم قصة فيقول: إن الشبلي جاء وهو سكران فدخل على الجنيد وكان الجنيد جالساً وزوجته كاشفة حاسرة، فأرادت أن تستتر؛ فقال لها: لا عليك، ليس هناك أحد. يعني أنه لا يحس بشيء، ثم كلمه أو خاطبه فما تم عبارته حتى وقع الجنيد والشبلي، هكذا هم يتواجدون ويتساقطون!
ومن باب التنبيه نقول: إن من الناس من يغمى عليه، أو يغشى عليه، أو يسقط إذا سمع كلام الله أو موعظة بليغة أو حديثاً، لكن أيهما أكمل: من يرد عليه مثل هذه المعاني التي فيها العظة والعبرة فيثبت ويصبر، أو من يسقط ويغشى عليه؟
الأكمل والأقوى هو الذي يثبت، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس يقيناً وأعظمهم خشوعاً، لم يحصل له شيء من ذلك، وكذلك الصحابة الكرام هم أشد الناس تأثراً بالقرآن، ولم يسقط منهم أحد، ولم يغم على أحد منهم، ولم يصلوا إلى هذا الحال الذي يسميه هؤلاء الضُّلال: (السكر) أبداً، بل ما يزال الواحد منهم بكامل وعيه وإحساسه مع ورود هذه المعاني على قلبه، ومع ذلك نعتذر لهؤلاء القوم فنقول: إنهم ضعفوا عن احتمال ما يرد عليهم، وهذا نقص وليس بكمال، وإنما الكمال في قوة الوارد مع قوة التحمل، وهو أن ترد على الإنسان واردات وخواطر عظيمة، وفي نفس الوقت يتحمل ذلك، فهذا هو الكمال وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا لم يسقط أحد من الصحابة كما قلنا، وإنما حصل هذا الشيء من بعض التابعين الفضلاء، لا سيما عباد البصرة، كما قرأ زرارة بن أوفى: (( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ))[المدثر:8] فسقط ومات.
أما الصوفية فقد تعلقت بذلك حتى تمكن الشيطان منهم -والعياذ بالله- فأصبح غاية همهم أن يتأثر الواحد بأي شيء يطرق سمعه حتى وصلوا إلى حد المضحكات، ومما يذكر في ذلك:
أن الحلاج كان ماشياً في شوارع بغداد، وإذا بخياط يخيط وعنده غلام في الدكان؛ يقول له: إلى كم تغلط؟ فأغمي على الحلاج وقال: كأن الحق خاطبني، وكذلك لما سمع الغراب يصيح قال: لبيك وسعديك. تعالى الله عن ذلك، يعني: أنهم أصبحوا مجانين حقيقيين، وليتهم كذلك؛ فالمجنون الحقيقي لا تؤخذ أقواله وإن كان يعذر، لكن هؤلاء يعظمون ويقدرون وتؤخذ أقوالهم على أنهم أهل الله وخاصته، وأنهم أهل الحق، وأنهم الذين لم يشتغلوا بما اشتغل به الناس من الرسوم والمظاهر، بل الحقائق والعلم اللدني.
  1. الانبساط عند الصوفية

    يقول الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) ومعنى الانبساط عند الصوفية : أنهم شبهوا الكلام مع الله سبحانه وتعالى، أو الحديث عن الله بمثل ما يقع من الانبساط مع ملك من ملوك الدنيا أو عظيم من عظمائها وبين جليس من جلسائه، والصوفية مشكلتهم أنهم يسمون العبادة خدمة، فتجدهم دائماً يقولون: القيام في خدمته، أي: خدمة الحق. فهم يتصورون خادماً ومخدوماً ووسطاء ووزراء، وشفعاء وخدام، كالحال مع ملوك الدنيا، وهذا من جهلهم بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يقرءون القرآن ولا السنة، وإنما يتلقى بعضهم عن بعض هذه الأوهام وهذه الضلالات.
    فكلما سمع أحدهم بيتاً من شعر الغزل أنزله في الله قياساً على محبوبه، وكلما تحدث عن ملك أو عظيم فكأن ربه كذلك. تعالى الله عما يصفون.
    إذاً: الانبساط عند الصوفية معناه ما ذكره صاحب منازل السائرين حيث يقول: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة البسط والتخلي عن القبض، وهي منزلة شريفة لطيفة، وهي عنوان على الحال، وداعية لمحبة الخلق" فقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : " (2/354) وقد غلط صاحب المنازل حيث صورها بقوله تعالى حاكياً عن كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ))[الأعراف:155]" قال: "وكأنه فهم من هذا الخطاب انبساطاً بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]" يعني: انبساطه معه.
    ثم يقول ابن القيم : "وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف في قوله تعالى: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155]: إن موسى عليه السلام تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ))[الأعراف:155]" يعني: لما رأى نفسه انبسط وقال كلمة لا ينبغي أن يقولها وهي قوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] حاول أن يتدارك فرجع وتذلل؛ بقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا))[الأعراف:155].
    ثم يقول ابن القيم : "وكل هذا وهم وخلاف المقصود، فالفتنة هاهنا هي: الامتحان والاختبار، وليس فيها أن الله تعالى فتن الناس؛ فأضلهم وأغواهم، فهي كقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا))[الأنعام:53]".
    إذاً: هذا شيء نسبه الله سبحانه وتعالى إلى نفسه، فإذا نسب الله تعالى إلى نفسه شيئاً ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الخلق فنسب إليه ما نسبه لنفسه فهذه النسبة صحيحة وحق، وليست من باب البسط. وأيضاً: "قوله سبحانه وتعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))[الجن:16-17] وقال: : ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً))[الأنبياء:35]" يقول: "والمعنى: أن هذه الفتنة اختبار منك لعبادك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، فأي تعلق لهذا بالانبساط؟ وهل هذا إلا توحيد، وشهود للحكمة، وسؤال للعصمة والمغفرة؟" إلخ.
    ثم ذكر تعريف الانبساط عن غير صاحب المنازل، فقال: "الانبساط: -عند الصوفية - هو: إرسال السجية، والتحاشي من وحشة الحشمة" أي: لا يكون هناك احتشام، ومعناه أن ترسل نفسك على سجيتها فيما تنطق به.
    ثم قال: "وهو على ثلاث درجات:
    الدرجة الأولى: الانبساط مع الخلق: وهو ألا تعتزلهم ضناً على نفسك، أو شحاً على حظك، وتسترسل لهم في فضلك، وتسعهم بخلقك، وتدعهم يطئونك" ونقول: لا يجوز للإنسان أن يهين نفسه إلى أن يجعلهم يطئونه.
    وقال: "الدرجة الثانية: الانبساط مع الحق. وهو أن لا يحبسك خوف، ولا يحجبك رجاء، ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء".
    فهذا كلامه، على أن فيه مقبولاً ومردوداً؛ ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالله تعالى ألبتة.
  2. الرد على الصوفية في الانبساط

    ثم يقول ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة الحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى". فلا أحد أقرب إلى الله وأكثر جاهاً ومنزلة عند الله عز وجل من رسوله صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال: "وكان أشد الخلق لله خشية وتعظيماً وإجلالاً، وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية.
    وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب، إلى الانبساط مع رب الأرباب" يقول: "نعم. لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به، وابتهاجه وقرة عينه، ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه إلا كثيف الحجاب، حجري الطباع، فلا بهذا الميعان، ولا بذاك الجمود والقسوة". والجمود واقع عند أهل الكلام، فهم يتكلمون عن الله سبحانه وتعالى كما يتكلمون عن أي مخلوق، بدون أي عاطفة ولا إحساس، والميعان: هو أن يصل الحال بأحدهم أن يقول: إنني أقول ما شئت في حقه ولا يؤاخذني؛ لأنني وصلت إلى الدنو منه، والانبساط بين يديه؛ فيقول ابن القيم: لا هذا ولا هذا، والحق وسط بينهما.
    ثم يقول: "وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم، وفتحوا للمقالة فيهم باباً، فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل، المنكس الرأس بين يديه، الذي لا يرضى لربه شيئاً من عمله: هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته".
    أي: مهما بلغت عبادتك لله فأنت أحوج ما تكون إليه في أن يتقبل منك هذا العمل، وأن يقبلك ويعفو عنك، وأن يغفر لك، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60] أي: خائفون وهم يعملون الأعمال الصالحة، أما أن يقال: ما دام أنك عملت الطاعات، وأصبحت تحبه ويحبك، إذاً سقط ما بينكما من الكلفة والحشمة فقل ما شئت، فهذا فاسد وباطل ومخالف للواقع.
    ثم يقول: "ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيلياً، ولا يرى نفسه محسناً قط، وإن صدر منه إحسان علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها، وإنما هو محض منة الله عليه، وصدقته عليه، فما لهذا والانبساط؟". يكفي في هذه المسألة أننا عرفنا هذا الاصطلاح.
    قال الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) إذاً: الشبلي كلامه هنا جار على منهج القوم أعني: الصوفية، وهذه العبارة منه محتملة لذم الانبساط والقول به، لكن هل هذا مقصود المصنف في الاستشهاد به هنا؟ فإنه استشهد به على معنى آخر: وهو أن من ينبسط مع الحق فهو تارك للأدب.
    وعلى هذا فالانبساط لا يجوز، والمصنف رحمه الله حمل الكلمة على أحسن المحملين، وإلا فهي في الحقيقة تحتمل الأمرين؛ ومعرفة القائل تساعد على تحديد المراد، والاحتمال الأول وارد؛ لأن القوم عندما يتكلمون عن الانبساط، يجعلونه منزلة ودرجة ومرتبة، ومعنى الانبساط عندهم: ترك الأدب. أي: أن تعتبر الكلفة والاحتشام ساقطة بينك وبينه، فتقول ما شئت؛ ولهذا قالوا: إن موسى عليه السلام لما قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] تكلم معه وخاطبه بقوله: أنت فتنتنا بهذا الشيء. يقولون: وهذا الكلام ليس فيه حرج؛ لأن الكلفة بينهما ارتفعت، والحشمة ذهبت، وهذا خلاف الحق.
    إذاً: فهذا الاحتمال يكون وارداً، لكن مراد المصنف رحمه الله: إنكار الكلام في ذات الله، وكذلك أئمة السلوك؛ فنقل كلام الشبلي، حيث يقول: (إن الانبساط مع الله ترك للأدب) أي: أمر غير مطلوب وغير صحيح فلا تنبسط، وهذا حسب فهمه رحمه الله، والذي يهم الآن هو أن نفهم مراده وهو: أنه قصد إقامة الحجة عليهم من كلام أئمتهم.
  3. منهج شيخ الإسلام في الكلام على أئمة التصوف والكلام مع أتباعهم

    وعندنا تنبيه ينبغي للقارئ أن يفهمه وهو: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه عندما يذكر كلام الجنيد والنوري والشبلي، ومن بعدهم كـعبد القادر الجيلاني وعدي بن مسافر وأشباههم، فهو ينقل عنهم أنهم كانوا يقولون: لابد من الالتزام بالسنة، ولا نقبل شيئاً إلا إذا كان موافقاً للكتاب والسنة ونحو ذلك.
    حتى إن الشبلي لما احتضر قال لغلامه: أعطني ماءً لأتوضأ؛ فقرب له ماءً، فوضأه غلامه ولم يخلل لحيته، فقال له: خلل لحيتي، ثم توجه ومات؛ فقالوا: رجل لم يترك هذه السنة عند موته فكيف يتهم أنه تارك للسنة؟
    ولذلك فـشيخ الإسلام رحمه الله يلزم أتباعهم بمثل هذه العبارات والنقولات، ويقول لهم: أنتم تركتم الجمع والجماعات، واستحللتم المحرمات، وارتكبتم الموبقات، ثم تنتسبون إلى هؤلاء، وهؤلاء كان فيهم ولاية، وكان فيهم صلاح ودين، فانظروا إلى أقوالهم وأفعالهم.
    وتجده أحياناً عندما يكون الخطاب من باب آخر -غير باب الدعوة- يتكلم عنهم كلاماً مجرداً فيقول: وقد ضل بهذا أقوام وغلطوا حتى وصلوا إلى الشرك. ثم يذكر أقوالهم، وقد ينسبها وقد لا ينسبها؛ لأنه لا يهمه هنا إلا بيان بطلان القول، وفي المقام الآخر يهتم باستجابة الأتباع، فمثلاً عبد القادر الجيلاني يعبد من دون الله، فكثير من الحجاج من إفريقيا وغيرها مع فقرهم وحاجتهم يحجون ثم يذهبون إلى بغداد من أجل أن يتموا الحج عند قبر عبد القادر الجيلاني .
    فإذا أراد إنسان أن يحتج على بطلان فعلهم فليأتهم بما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني في الغنية أو في غيرها، وأنت من باب الدعوة وإلزام هذا الإنسان تخاطبه بكلام إمامه، بينما قد ينقل عن عبد القادر الجيلاني كلاماً لا يمكن السكوت عليه، فمقام الحكم على الرجل شيء، ومقام دعوة أتباعه المنتسبين إليه إلى حقيقة التوحيد شيء آخر. فهذا مقام وذاك مقام، ولكل مقام مقال.